كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر. وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى.. وإذا قدر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة.. وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام!.. لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله؛ لينفثىء غضبه، ويأخذ على الشيطان طريقه:
{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}..
وهذا التعقيب: {إنه سميع عليم}.. يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم؛ عليم بما تحمله نفسك من أذاهم.. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس.. فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعدما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟!
ثم يتخذ السياق القرآني طريقًا آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول، وذكر الله عند الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم:
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.
وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة، وحقائق عميقة، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل.. إن اختتام الآية بقوله: {فإذا هم مبصرون} ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك.. إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه.. تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه.. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم؛ وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: {فإذا هم مبصرون}.. إن مس الشيطان عمى، وإن تذكر الله إبصار.. إن مس الشيطان ظلمة، وإن الاتجاه إلى الله نور.. إن مس الشيطان تجلوه التقوى، فما للشيطان على المتقين من سلطان..
ذلك شأن المتقين: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.. جاء بيان هذا الشأن معترضًا بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين؛ وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين، يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون.. فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين:
{وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}..
وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن.. وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضًا.. إنهم يزيدون لهم في الضلال، لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون! وهم من ثم يحمقون ويجهلون! ويظلون فيما هم فيه سادرين.
ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول: {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها}..
أي.. لولا ألححت على ربك حتى ينزلها!.. أو هلا فعلتها أنت من نفسك؟ ألست نبيًا؟!
إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته؛ كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه؛ وأنه يتلقى منه ما يعطيه؛ ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه؛ ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه.. والله يأمره أن يبين لهم: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي}..
فلا أقترح، ولا أبتدع، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي. ولا آتي إلا ما يأمرني به..
لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:
كذلك يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به، وحقيقته التي يغفلون عنها، ويطلبون الخوارق المادية، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.
إنه هذا القرآن.. بصائر تهدي، ورحمة تفيض.. لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم.
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب- في جاهليتهم- يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة!
إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه.. من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان.. لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان!
فهذا جانبه التعبيري.. ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه- بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني، ويتفاخرون به في أسواقهم!- ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزًا لا يتطاول إليه أحد من البشر. تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائمًا. والذين يزاولون فن التعبير من البشر، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز.. سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون.. فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون.. وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن- في جاهليتهم- ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم- وهم جاحدون كارهون- كذلك يجد اليوم وغدًا كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون!
ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد.. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة- متى خلي بينها وبينه لحظة!- وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحيانًا؛ وتتململ قلوبهم أحيانًا تحت وطأة هذا السلطان؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن!
إن الذين يقولون كثيرون.. وقد يقولون كلامًا يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكارًا واتجاهات.. ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب!.. ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم- ويقولون لأنفسهم في الحقيقة-: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}.. لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل- مع ذلك كله- غلابًا.. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون!
ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه.
وما تتسع صفحات عابرة- في ظلال القرآن- للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه.. فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد!
وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟!
منهج هذا القرآن العجيب، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود.. وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها، لا يدع جانبًا واحدًا منها لا يخاطبه في السياق الواحد، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها؛ ولا يدع خاطرًا فيها لا يجاوبه، ولا يدع هاتفًا فيها لا يلبيه!
منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق، والتجاوب الحي، والرؤية الواضحة. وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة.
منهج هذا القرآن العجيب، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة؛ ويصعد بها- في هينة ورفق، وفي حيوية كذلك وحرارة، وفي وضوح وعلى بصيرة- درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة.. إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة..
منهج هذا القرآن العجيب، وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة! أو أن يكون هذا وتر استجابة! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب. ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق، وهو أقرب إليه من حبل الوريد!
ذلك المنهج؟.. أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج.. وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئًا.. {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا} {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} إن الذي يكتب هذه الكلمات، قضى- ولله الحمد والمنة- في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عامًا. يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب؛ في شتى حقول المعرفة الإنسانية- ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه- ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب.. ويرى.. يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة، وتلك النقر الصغيرة.. وتلك المستنقعات الآسنة أيضًا!
في النظرة الكلية في هذا الوجود، وطبيعته، وحقيقته، وجوانبه، وأصله، ونشأته، وما وراءه من أسرار؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها فلسفة البشر!.
في النظرة الكلية إلى الإنسان ونفسه، وأصله، ونشأته، ومكنونات طاقاته، ومجالات نشاطه؛ وطبيعة تركيبه وانفعالاته، واستجاباته، وأحواله وأسراره.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع! والعقائد والأديان..
في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية؛ وجوانب النشاط الواقعي فيها؛ ومجالات الارتباط والاحتكاك، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة!
إنني لم أجد نفسي مرة واحدة- في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية- في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن- فيما عدا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من آثار هذا القرآن- بل إن أي قول آخر ليبدو هزيلًا- حتى لو كان صحيحًا- إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب..
إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات.. وما بي أن أثني على هذا الكتاب.. ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعًا ليضيفوا إلى كتاب الله شيئًا بما يملكون من هذا الثناء!
لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد.. جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية- لا من قبل ولا من بعد- جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن..
لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ- بمشيئة الله وقدره- هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر. وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعًا.. وهي معجزة واقعة مشهودة.. أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة..